أصبح حقل السرديات من الحقول البارزة في مجال العلوم الإنسانية والمجال اللساني بالخصوص؛ نظرا لما يقدمه هذا الحقل من قراءة ومقاربة جديدة للخطابات القصصية، إذ أحدث ثورة معرفية ومنهجية متجاوزا بذلك الأطروحات والمقاربات التاريخية التي تحكمت في جل المناهج السابقة.
ويعتبر مصطلح السرد من المصطلحات التي تعمل على قص أو حكي خبر وحدث معين في ظرف معين، ويُعرفه الأستاذ عبدالمالك مرتاض بقوله هو التتابع الماضي على وتيرة واحدة"[1] ويعتبر كذلك من الأدوات التي تقوم على نسج علاقات بين العناصر التي يقوم عليها النص القصصي، وللسرد دور في صياغة المادة الحكائية عن طريق اللفظ بتحويل الصورة الواقعية إلى صورة لغوية باعتماد أنماط كثيرة ومستويات معينة للوصول إلى صياغة سردية مناسبة، كما يركز السرد على إظهار الأحداث وقت حدوثها أي بعدها الزمني.
وبخصوص آراء المفكرين العرب والغربيين عنموقع السرديات من تحليل الخطاب، فقد عبر العديد من هؤلاء عن تقارب وتداخل السرديات مع تحليل الخطاب، حيث شرح لطيف زيتوني الخطاب في المفهوم السردي "هو القول الشفهي أو الخطي الذي يخبر عن حدث أو سلسلة أحداث. وهذ التعريف يقرب الخطاب من النص، ويقربه من السرد، وهو وضع الحكاية في نص لنقلها إلى القارئ"[2]وعرّف السرد كذلك بكونه" فعل يقوم به الراوي الذي ينتج القصة، وهو فعل حقيقي أو خيالي ثمرته الخطاب" [3]
ويظهر تعامل محلل الخطاب مع السرديات في اعتماد أدوات إجرائية عالية الدقة تساعده على تحليل وتفسير ووصف مختلفالخطابات؛ إذ تتوفر السردية علىبنيات متعددة (لكل خطاب بنية وآلية خاصة به)، حيث تُعنى السردية بدراسة المستويات التركيبية والعلاقات التي تربط الراوي بالمتن الحكائي.
الهدف من كتابة هذا البحث هو محاولة دراسة عنصر الحدث (الذي يعتبر أحد العناصر السردية المهمة) من خلال قصة نوح عليه السلام في سورة هود.
الحدث Évent
الحدث في اللغة "كون شيء لم يكن، وحدث أمر أي وقع"[4]، ويعد الحدث بمثابة العمود الفقري للنص الذي تقوم عليه بنيته، وتظهر الأحداث في السرد بمظاهر متنوعة وكثيرة تساعد على تشكيل رؤيا موحدة حول الحدث البارز والرئيسي في النص، "والحدث يمكن أن يكون فعلا أو عملا act (عندما يحدث التغيير بفعل فاعل: فتحت مارى النافذة) أو حادثة عرضية happening(عندما لا يحدث التغيير بفعل فاعل: بدأ المطر في السقوط) . وتعد الأحداث events هي والكائنات: المكونات الرئيسية للقصة. تشاتمان 1978؛ فان ديجيك1974 - 1975"[5].
وتتشكل الأحداث في السرد القصصي القرآني المتمثل في قصة نوح عليه السلام في سورة هود على الشكل التالي:
- أحداث ووقائع مألوفة: تظهر من خلال الصراع الدائر بين نوح عليه السلام، وقومه الذين أنكروا دعوته إلى التوحيد، ووصفوا دعوته بالكذب
{ ﻓَﻘَﺎﻝَ ﺍﻟْﻤَﻠَﺄُ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﻛَﻔَﺮُﻭﺍ ﻣِﻦ ْﻗَﻮْﻣِﻪِﻣَﺎ ﻧَﺮَﺍﻙَ ﺇِﻟَّﺎ ﺑَﺸَﺮًﺍ ﻣِﺜْﻠَﻨَﺎ ﻭَﻣَﺎ ﻧَﺮَﺍﻙَ ﺍﺗَّﺒَﻌَﻚ َﺇِﻟَّﺎ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦ َﻫُﻢ ْﺃَﺭَﺍﺫِﻟُﻨَﺎ ﺑَﺎﺩِﻱَ ﺍﻟﺮَّﺃْﻱ ِﻭَﻣَﺎ ﻧَﺮَﻯ ﻟَﻜُﻢْ ﻋَﻠَﻴْﻨَﺎ ﻣِﻦْ ﻓَﻀْﻞ ٍﺑَﻞْ ﻧَﻈُﻨُّﻜُﻢْ ﻛَﺎﺫِﺑِﻴﻦَ}
- أحداث مفترضة ومتوقعة: وتتجلى في دعوة نوح عليه السلام قومه إلى الإيمان لتجنب العذاب المنتظر والمتوقع بسبب إنكار دعوة نبي الله نوح
{ ﺃَﻥْ ﻟَﺎ ﺗَﻌْﺒُﺪُﻭﺍ ﺇِﻟَّﺎ ﺍﻟﻠَّﻪَ ﺇِﻧِّﻲ ﺃَﺧَﺎﻑُ ﻋَﻠَﻴْﻜُﻢ ْﻋَﺬَﺍﺏَ ﻳَﻮْﻡٍ ﺃَﻟِﻴﻢٍ}
- أحداث إعجازية وخارقة: صناعة السفينة في أرض يابسة لاتخاذها وسيلة للنجاة {ﻭَﺍﺻْﻨَﻊِ ﺍﻟْﻔُﻠْﻚ َﺑِﺄَﻋْﻴُﻨِﻨَﺎ ﻭَﻭَﺣْﻴِﻨَﺎ ﻭَﻟَﺎ ﺗُﺨَﺎﻃِﺒْﻨِﻲ ﻓِﻲ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﻇَﻠَﻤُﻮﺍ ﺇِﻧَّﻬُﻢ ْﻣُﻐْﺮَﻗُﻮﻥ}
- الحدث الصادق: ويتجسد في دعوة نوح عليه السلام قومه إلى التوحيد، والمتمثل في الآية { ﺃَﻥْ ﻟَﺎ ﺗَﻌْﺒُﺪُﻭﺍ ﺇِﻟَّﺎ ﺍﻟﻠَّﻪَ ﺇِﻧِّﻲ ﺃَﺧَﺎﻑُ ﻋَﻠَﻴْﻜُﻢ ْﻋَﺬَﺍﺏَ ﻳَﻮْﻡٍ ﺃَﻟِﻴﻢ}
- الحدث المألوف: ويظهر من خلال إعراض قوم نوح عن دعوته للتوحيد، وجوابهم القاسي بوصفهم نوح عليه السلام بالمُجادل، ورغبتهم في رؤية العذاب والعقوبة المنتظرة {ﻗَﺎﻟُﻮﺍ ﻳَﺎ ﻧُﻮﺡ ُﻗَﺪْ ﺟَﺎﺩَﻟْﺘَﻨَﺎ ﻓَﺄَﻛْﺜَﺮْﺕَ ﺟِﺪَﺍﻟَﻨَﺎ ﻓَﺄْﺗِﻨَﺎ ﺑِﻤَﺎ ﺗَﻌِﺪُﻧَﺎ ﺇِﻥ ْﻛُﻨْﺖَ ﻣِﻦَ ﺍﻟﺼَّﺎﺩِﻗِﻴﻦَ}
- الحدث الخارق: استمرار نوح عليه السلام في صناعة السفينة رغم سخرية قومه، ويقول لهم {ﻭَﻳَﺼْﻨَﻊُ ﺍﻟْﻔُﻠْﻚ َﻭَﻛُﻠَّﻤَﺎ ﻣَﺮَّ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻣَﻠَﺄٌ ﻣِﻦ ْﻗَﻮْﻣِﻪِ ﺳَﺨِﺮُﻭﺍ ﻣِﻨْﻪ ُﻗَﺎﻝ َﺇِﻥْ ﺗَﺴْﺨَﺮُﻭﺍ ﻣِﻨَّﺎ ﻓَﺈِﻧَّﺎ ﻧَﺴْﺨَﺮ ُ ﻣِﻨْﻜُﻢْ ﻛَﻤَﺎ ﺗَﺴْﺨَﺮُﻭﻥَ} "وسخرية نوح عليه السلام والمؤمنين من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته، فالسخريتان مقترنتان في الزمن... فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية، وإن كان بين السببين بون."[6]
- الحدث العاطفي: يظهر هذا الحدث حين تحركت عاطفة الأبوة، حيث نادى نوح ابنه ليركب معه في السفينة خشية غرقه {ﻭَﻫِﻲَ ﺗَﺠْﺮِﻱ ﺑِﻬِﻢ ْﻓِﻲ ﻣَﻮْﺝٍ ﻛَﺎﻟْﺠِﺒَﺎﻝ ِﻭَﻧَﺎﺩَﻯ ﻧُﻮﺡٌ ﺍﺑْﻨَﻪُ ﻭَﻛَﺎﻥَ ﻓِﻲ ﻣَﻌْﺰِﻝٍ ﻳَﺎ ﺑُﻨَﻲَ ّﺍﺭْﻛَﺐ ْﻣَﻌَﻨَﺎ ﻭَﻟَﺎ ﺗَﻜُﻦ ْﻣَﻊ َﺍﻟْﻜَﺎﻓِﺮِﻳﻦَ}.
- الحدث المحظور: تستيقظ في نفس نوح عليه السلام لهفة الوالد المفجوع، إذ استعطف ربه لنجاة ابنه {ﻭَﻧَﺎﺩَﻯ ﻧُﻮﺡٌ ﺭَﺑَّﻪ ُﻓَﻘَﺎﻝ َﺭَﺏِ ّﺇِﻥَ ّﺍﺑْﻨِﻲ ﻣِﻦ ْﺃَﻫْﻠِﻲ ﻭَﺇِﻥ َّﻭَﻋْﺪَﻙ َﺍﻟْﺤَﻖ ُّﻭَﺃَﻧْﺖَ ﺃَﺣْﻜَﻢ ُﺍﻟْﺤَﺎﻛِﻤِﻴﻦ} وجاءه الرد من ربه بقوة وتأكيد وتأنيب {ﻗَﺎﻝ َﻳَﺎ ﻧُﻮﺡُ ﺇِﻧَّﻪُ ﻟَﻴْﺲَ ﻣِﻦ ْ ﺃَﻫْﻠِﻚ َﺇِﻧَّﻪُ ﻋَﻤَﻞ ٌﻏَﻴْﺮ ُﺻَﺎﻟِﺢ ٍﻓَﻠَﺎ ﺗَﺴْﺄَﻟْﻦ ِﻣَﺎ ﻟَﻴْﺲَ ﻟَﻚ َﺑِﻪ ِﻋِﻠْﻢ ٌﺇِﻧِّﻲ ﺃَﻋِﻈُﻚ َﺃَﻥْ ﺗَﻜُﻮﻥَ ﻣِﻦ َﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻠِﻴﻦَ}.
يمكن أن نوجز ما تقدم في هذا العرض المتواضع حول الخطاب السردي وعنصر الحدث في قصة نوح عليه السلام فيما يلي :
- تنوع الأحداث التي ميزت هذه القصة، فكل حدث يحمل دلالات معينة، وكل سرد يتخذ مستوى متميزا يجسد الصورة التي عليها القصة القرآنية.
- كل حدث له بناء خاص يفرضه المضمون الذي رافقه وهذا التنوع يمثل في نهاية الأمر إنتاجا دلاليا محكما
- تحرك السرد القصصي في أحداث مرتبة ومتوالية تعكس الوحدة السردية للقصص القرآني.
[1]عبدالمالك مرتاض، ألف ليلة وليلة دراسة سيميائية لحكاية حمال بغداد، ديوان المطبوعات الجامعية، سنة 1993، ص 83
[2]لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، ص 89
[3]لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، ص 105
[4]ابن منظور، لسان العرب، ج8، دار صادر، بيروت، ص131
[5]چيرالد برنس، قاموس السرديات، ترجمة السيد إمام، ميريتللنشر والمعلوميات، الطبعة 1، سنة 2003، القاهرة، ص63
[6]ابن عاشور، التحرير والتنوير، 12/68

تعليقات
إرسال تعليق