يعتبر موضوع استراتيجيات الخطاب من الموضوعات التي استأثرت باهتمام العديد من الباحثين، لِمَ للخطاب من دورٍ فعالٍ في تبيان الحقائقِ، وتقريب وجهات النظر بواسطة استخدام علاقات وأنماط تسهل عمليةَ التواصل سواء كان هذا الخطاب سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا...
ويُعدُّ كتاب "استراتيجيات الخطاب" لمؤلفه عبد الهادي بن ظافر الشهري من بين أهم المراجع الواردة في هذا المجال؛ لتناوله عديد القضايا المختصة في الاستراتيجيات سواء ما اشتملت عليه الدراسات العربية من جهة، والدراسات الغربية من جهة ثانية.
وقد وقع اختيارنا على دراسة ما تناوَلَه الفصلُ الرابعُ من الكتاب، والمُعَنوَنُ باسم "استراتيجيات الإقناع" ، وسنحاول من خلاله تفصيل بعض الأفكار الواردة فيه،والإجابةَ على جملة من التساؤلات الخاصة بالفصل وهي:
- المقصود بالاستراتيجية، والإقناع.
- موقع استراتيجيات الإقناع.
مفهوم الاستراتيجية
لفظ ذو أصل أجنبي ومشتق من الكلمة اليونانية strategos، ويدل على "كيفية قيادة الجنرال للحرب". ويحيل ضمن حياتنا المعاصرة إلى "علم تخطيط وتوجيه العمليات الحربية". وقد يطلق فيراد منه الخطة التي يقصد منها بلوغ الهدف المنشود". وبهذا يكون المفهوم قد تعدى المجال العسكري ليشمل سياقات أخرى في الحياة. ولعل الجامع بين المعنى العسكري للمفهوم والمعاني الخاصة بكل مقام استعمالي هو حضور مؤلفات هذا المفهوم ضمن كل تلك المقامات، وتتمثل هذه المؤلفات في: الهدف، السياق وعناصره، الفعل، والفاعل.
مفهوم الإقناع
لغة: جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة قنع (بفتح العين) قنوعا، أي سأل الناس الاحسان راضيا بالقليل[1]. أما قنِع قنعا وقناعة إذا رضي بما أعطي، فالقناعة الرضى بما أُخذ عن الغير.
اصطلاحا: أطلق حازم القرطاجني هذا اللفظ وأراد به "حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده"[2] فقد اعتنى كذلك بمقصد الاقناع: وهو جعل المخاطب يعتقد رأيا، أو يقوم بفعل، أو العدول عنهما. وذهب الخوارزمي مذهبا آخر في تعريف مفهوم الإقناع فقال: "ومعنى الإقناع أن يعقل نفس السامع الشيء بقول يصدق به وإن لم يكن ببرهان"[3]. فالمهم عند الخوارزمي حصول الاقتناع لدى المخاطب، وإن كان غفلا من الحجج.
ويُعَرّفُ الإقناع أيضا بأنه "مجموع قوانين تعرّف الدارس طرق التأثير بالكلام، وحسن الإقناع بالخطاب، وهو مظهر من مظاهر الإحساس بقوة الكلام وجدواه الذي لا يتم إلا في ظروف خاصة" [4]
الاقناع في الخطاب
تُعَرّفُ الخَطابةُ بكونها "فن أدبي يعتمد على القول الشفوي في الاتصال بالناس لإبلاغهم رأيا من الآراء حول مشكلة ذات طابع جماعي، وبمعنى أشمل هي فن المخاطبة بطريقة إلقائية تشتمل على الإقناع والاستمالة"[5]، فعلى هذا الأساس يُعتبرُ الإقناع في الخطاب "عملية خطابية يتوخى بها الخطيب تسخير المخاطب لفعل أو ترك بتوجيهه إلى اعتقاد قول يعتبره كل منهما (أو يعتبره المخاطب) كافيا ومقبولا للفعل أو الترك"[6]. ولعل هذا التسخير لا يتحقق إلا بتحصيل كفاءة تداولية فعالة من لدن المتكلم من خلال تخيير اللفظ والأسلوب ومناسبة الحجج للسياق ومرتبة المخاطب...
ويرى الشهري بأنه "إذا كانت البلاغة هي فن الإقناع بالخطاب وجب التأكيد أنه -الخطاب- ليس أبدا حدثا معزولا؛ بل على العكس من ذلك، فإنه يقابل خطابات سبقته أو ستليه، والتي قد تكون ضمنية.. فالقاعدة الأساسية للبلاغة هي أن الخطيب الذي يخطب أو يكتب بهدف الإقناع ليس أبدا وحيدا، وإنه يعبّر دائما عن ذاته مع أو ضد خطباء آخرين، أي أن هناك دائما ارتباطا بخطابات أخرى"[7]
موقع استراتيجية الإقناع بالنسبة لباقي الاستراتيجيات
صنف المؤلف استراتيجيات الخطاب بناء على معايير ثلاثة:
المعيار الأول: المعيار الاجتماعي ويتمثل في العلاقة بين المرسل والمرسل إليه
وتندرج تحته الاستراتيجية التضامنية وأخرى توجيهية: وتركز هذه الاستراتيجيات على الوضوح في التعبير بتوظيف أفعال لغوية صريحة لا تحتاج للتأويل.
المعيار الثاني: شكل الخطاب متعلق بالاستراتيجية التلميحية، وتختلف هذه الاستراتيجية عن سابقتها؛ إذ تعتمد على التلميح للوصول إلى المقصود من الخطاب، ومن الأدوات المستعملة فيها (الاستعارة، التشبيه، المجاز، الكناية...)
معيار الهدف: متعلق باستراتيجية الاقناع التي نحن بصدد إلقاء نظرة عليها.
وما يلفت النظر هنا: غياب المعيار الجمالي الذي يروم إحداث أثر انفعالي في نفس المخاطب، وهو متعلق خاصة بالخطاب الشعري الذي أغفله في هذا المقام، وهو خطاب بلغ من الأهمية أن غدا ديوان العرب نظرا لغلبته على النثر في التراث الأدبي العربي القديم.
يهدف الخطاب الإقناعي حسب الكتاب إلى تغيير الموقف الفكري أو العاطفي للمخاطِب عن طريق استخدام تقنيات متنوعة تعمل على التأثير في نفسية المتلقي (الفرح، السخط، الإعجاب، الخوف...). وقد جعل روبول الوظيفة الإقناعية من وظائف البلاغة. كما أنها تستعمل لأغراض نفعية يسعى إليها المرسل إليه. إن من أصول انتهاج استراتيجية الاقناع حسب طه عبد الرحمان هي ثنائية العاقلية والمعاقلة، وذلك من خلال ما توصل إليه من دراسته لعلم الكلام، وبمقتضى هذه الثنائية يسعى المرسل إلى أن يكون سلوكه موجها لاستهداف قصد معين، مما يستدعي اتباع استراتيجية إقناع مناسبة.
[1] لسان العرب، ابن منظور، مادة قنع.
[2]منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص: 20.
[3]الخوارزمي، محمد بن أحمد بن يوسف، مفاتيح العلوم، تحقيق إبراهيم الأبياري، ص: 177
[4]محمد أبو زهرة، الخطابة أصولها، تاريخها في أزهى عصورها عند العرب، دار الفكر العربي، القاهرة، ص 07
[5]فاروق سعد، فن الإلقاء العربي، ص 25
[6]حمو النقاري، التقنين الآرسطي لطرق الاقناع ومسالكه،
[7]عبد الهادي بن ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، دار الكتاب الجديد، ليبيا، الطبعة الأولى، سنة2004، ص445

تعليقات
إرسال تعليق