القائمة الرئيسية

الصفحات

عوائق البحث اللساني في الثقافة العربية المعاصرة


عوائق البحث اللساني في الثقافة العربية المعاصرة



لم تلق اللسانيات الاهتمام الذي لاقته نظيرتها في الغرب موطن النشأة رغم مرور ردح من الزمان على معرفتها، والبحث فيها وتدريسها، ويرجع ذلك إلى أسباب وعوامل ارتبطت حسب حافظ اسماعيلي علوي بإشكالات التلقي وعوائقه. فما هي إذن هاته العوائق والإشكالات التي حالت دون نمو البحث اللساني وازدهاره وتطوره في الثقافة العربية المعاصرة؟

ميز حافـظ اسماعيلي علوي في عوائق البحث اللساني في الثقافة العربية المعاصرة بين نوعين اثنين:

- عوائق موضوعية ذات أبعاد نفسية حضارية.

- عوائق ذاتية مرتبطة بطبيعة البحث اللساني في الثقافة العربية.

 

 العوائق الموضوعية

ترتبط بعوائق التلقي وعواملها النفسية الحضارية، وعلى هذا المستوى نجد:

أولا:  صورة الغرب في المتخيل العربي 

 وهي صورة في مجملها سوداء تركت جرحا لم يندمل، جرحا غائرا كرسه الاستعمار. فثقافة هذا المستعمر تحمل في طياتها مبدأ الهيمنة والمصادرة. ومن تم وجب رفض كل ما هو غربي. لكن السؤال الذي يبقى مطروحا: أليس هناك ما يبرر هذا الرفض، ويكرس تلك الصورة في ظل الواقع المعيش؟

وبما أن علم اللسانيات غربي المولد والنشأة فلابد أن تدخـل في دائـرة الصراع خاصة وأن بوادر نشأتهـا داخل المجتمعات العربية كان مع طلائع البعثات الطلابية كرفاعة الطهطاوي الذي انبهر أيـما انبهار بالثقافة الغربية جعلته يغير جبته الأزهرية بربطة العنق الباريسيـة. أليس هذا سببا كافيا في عرقلة نمو وتطور اللسانيات في بداياتها داخل المجتمعات العربية؟

ثانيا: اللسانيات والاهتمام باللهجات:

 إن اهتمام اللسانيات باللهجات خلق مقاومة لها، وحال دون انتشارها في الثقافة العربية خاصة إذا علمنا أن هذا الاهتمام ارتبط بالاستشراق كما يعبر عن ذلك محمد محمد حسين  بقوله: "اقترنت الدراسات العربية الحديثة على الطريقة الغربية، والصوتية منها بنوع خاص بالدعوة إلى العناية باللهجات العامية وآدابها، أو ما يسمونه ) الأدب الشعبي(  والدعوة بشكلها هذا جديدة على الدراسات العربية لم يسمع لداع بها صوت قبل القرن الأخير، وقد نشأت باقتراح بعض المستشرقين من رجال الاستعمار"[1].

وقد ربط عبد السلام المسدي بين أهداف الاستشراف والدراسات اللسانية ممثلة بدراسة اللهجات وقد أوضح ذلك قائلا "لا مهرب لنا من الإقرار موضوعيا بأن بعضهم  ]يقصد المستشرقين[  قد عمل على ازدهار علم اللهجات العربية بباعث، إما سياسي غايته استعمارية، وإما عقائدي يهدف إلى تقليص البعد الديني والوزن الروحي الذي للعربية عند أهلها، وإما مذهبي يرمي إلى نقض التركيب الهرمي في المجتمع انطلاقا من دك بنيته الفكرية"[2].

 

ثالثا: منزلة اللغة العربية لدى العربي 

 تحظى اللغة العربية بمكانة خاصة لدى العربي، فتلك النظرة التي ينظر إليها باعتبارها لغة القرآن، وكذا رمز العروبة والإسلام وهي أيضا لغة الحضارة والقومية، وجسر إلى الوحدة الاقتصادية والسياسية... هاته المنزلة الفريدة التي تحظى بها اللغة العربية شكلت حسب حافظ اسماعيلي علوي عائقا حال دون تطور البحث اللساني. "وعلى هذا الأساس تكون المكانة التي تحظى بها اللغة العربية ذات أسباب نفسية ترتبط بالحظوة التي نالتها من القرآن الكريم. كما أن هذا الاهتمام له جذوره في التراث العربي، ومن ثمة يمكننا أن نفهم أن آراء بعض المحدثين هي استمرار لآراء القدامى وتمسك بها."[3] 

 

العوائق الذاتية

عرّف حافظ اسماعيلي علوي العوائق الذاتية بقوله "نقصد بالعوائق الذاتية مختلف الأشكال المرتبطة بتلقي اللسانيات في الثقافة العربية في علاقتها باللسانيات واللسانيين."[4]

 ويبدو من خلال هذا التعريف أن العوائق الذاتيـة منها ما هو مرتبط باللسانيات، ومنها ما هو مرتبط باللسانيين أنفسهم. فبخصوص ما هو مرتبط باللسانيات العربية، ومما يُكَرّس الوضع القائم نجد:

  •     غياب اهتمام واضح بقضايا المجتمع.
  •       هامشية اللسانيات ومحدوديتها في القضايا، والتحديات التي تواجه الأمة.
  •       عجز اللسانيات عن حل مشاكلها الخاصة والمتمثلة في: إشكالية المصطلح اللساني في الثقافة العربية، وإشكالية التعريب.

هذا فيما يتعلّق بدور اللسانيات العربية في تكريس الواقع القائم. أما فيما يتعلّق باللسانيين نجد:

  •  الموقف السلبي من واقع اللسانيات
  •   التراث والحداثة اللسانية.
  • عدم تكامل البحوث اللسانية العربية والعجز عن مواكبة مستجدات البحث اللساني.

وقد أجمل عبد السلام المسدي هذه العوائق في أن "أول عائق يلوح أمام نهضة الإشعاع اللساني في الوطن العربي هو اكتمال علوم اللغة عند العرب، نشأ بموجبه لدى العربي نوع من القداسة تجاه لغته، كما نشأ سياج من المحظورات ترسّخت بموجبه عُقَد الاستغناء.

 فهذا السبب ذو طابع نفسي حضاري زكاه عدم تمييز الإطلاع على حقائق علوم اللسان في العصر الحديث. وظل تصور كثير من رجال البحث ورواد الفكر وركائز الجامعات للسانيات محصورا كليا أو جزئيا بحقل الصوتيات، وهذا المجال الذي ضبطه العرب ضبطا دقيقا مما دعم عند

العربي الكفاف والغناء عن اللسانيات، والظن بأن اللسانيـات إنما تستمد شرعيتها من عكوفها على اللهجات.كما أن اعتماد العديد من الباحثين في اللسانيات العربية على الكتابة بلغة

أجنبية. فَهُم بصنيعهم هذا يُعَرّضون أنفسهم لعدة مطاعن، بالإضافة أنه يعيق النهضة اللسانية العربية."[5]

فهذه مجمل العوائق التي حالت دون تطور اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة، وساهمت في تكريس الواقع الذي يتسم بالتخلف. وقد أرجع حافظ اسماعيلي علوي هذا الأمر في كثير من جوانبه إلى سوء الفهم والمغالطة.

لكن وحسب ما تمت الإشارة إليه، فهذه العوائق لها ما يبررها سواء تعلق الأمر باللسانيات أو باللسانيين أنفسهم، وقد ألمحنا لذلك سابقا بما يُغني عن إعادته هنا. لكن هذا الوضع المزري بدأت سحبه تنقشع مع بداية السبعينات حيث بدأ الاهتمام باللسانيات ومناهجها ونظرياتها المختلفة. "إن الاهتمام باللسانيات ومناهجها ونظرياتها المختلفة لم يبدأ في الثقافة العربية فعليا إلا في بداية السبعينات من القرن العشرين."[6] وأشار مصطفى غلفان إلى المراحل التي قطعتها اللسانيات حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من الدقة والضبط، وقد أجملها فيما يلي:

  •   إرسال البعثات العربية إلى الجامعات الغربية.
  •  القيام بدراسات جامعية وأطروحات من قبل طلاّب عرب في جامعات أوربا، وأمريكا.
  •  إنشاء كراسي خاصة بعلم اللغة، كما هو الشأن في الجامعات المصرية.
  •  ظهور كتابات لغوية تعرف بعلم اللغة الحديث.
  •  ظهور ترجمة عربية لبعض المقالات اللسانية.
  •  تنظيم ندوات ولقاءات علمية محلية وجهوية ودولية في مجال اللسانيات.
  •  إنشاء تخصصات قائمة الذات في اللسانيات العامة بكليات الآداب بالجامعات العربية.

 




[1] محمد محمد حسين، مقالات في الأدب واللغة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1988، ص 48

[2]  عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، الدار التونسية للنشر، تونس، 1986 ، ص 16

[3] حافظ اسماعيلي علوي، لغة الحضارة والقومية، سلسلة كتب المستقبل العربي، العدد 55 ، 2007، ص 102

[4]  نفسه، ص 106

 

[5]  عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص12- 16

[6] مصطفى غلفان، اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة، النشر والتوزيع المدارس، المغرب، الطبعة الأولى، 2006 ، ص 144

 

 

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات